دعوة الحق
68 العدد
نتج هذا الموضوع عن حديث جرى بيني وبين الأستاذ الأخ الحاج المكي بن مسعود طردانو فحرر فيه ما حضر من معلومات –أحببت اليوم أن أزفه لقراء الدعوة.
إن ظهور النزعة الصوفية كان آخر أيام الدولة الأموية على يد الحسن البصري في البصرة، ثم في العهد العباسي على يد جابر بن حيان الكميائي الشيعي وأبي العتاهة في الكوفة. واستعار هؤلاء من رهبان النصارة أرديتهم الصوفية البيضاء، ومن أجل ذلك شموا –بالصوفية وعلى رأس هؤلاء المحاسبي المولود بالبصرة، والمنتقل بعد إلى بغداد. ومما أدت إليه النزعة الصوفية –نظرية الحلول، ووحدة الوجود، والكشف، والتجلي والتصرف، والفيض الذي أفاض الكلام عنه المعلم الأول –أرسطو- وتلك أشياء مستمدة من الأفلاطونية الحديثة والبوذية والاسماعلية الباطنية، والرافضة وغيرها.
وكان من نشأة الوحدة أن اعتنقها جماعة –كالحلاج وابن الفارض، وابن عربي الحاتمي، وجلال الدين الرومي صاحب ديوان المنسفى المشتمل على نحو 000 27 ألف بيت، وفي منتصف القرن الثالث نشات الطريقة السقطية نسبة إلى السرى السقطي، والجندية نسبة إلى الجنيد الإمام السالك الذي بنى طريقته على الكتاب والسنة، وكم له من مقالات وكلمات حول السلوك السلفي الصادق الذي لا يذر شكا في قوة صوفيته الروحية الحق.
ثم نشأت بعد طرق صوفيى كثيرة في القرنين -6-7 أهمها القادرية نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلي جامل راية المذهب الحنبلي. والرفاعية نسبة إلى أحمد الرفاعي، والشاذلية نسبة إلى أبى الحسن الشاذلي المغربي الخمسي اليفرحي تلميذ الشيخ عبد السلام بن مشيش، والأحمدية نسبة إلى أحمد البدوي. نعم كان لهذه الطرق سلوك فيه القليل من الاتزان والآخر بفبض سفها وشططا. والذي تميل إليه النفس ويتسم بصبغة المعقولية والمنطق، أن السياسة والسياسة بالذات هي التي كانت تدور في أفلاك تلك الأجواء القاتمة وكانت السبب الجوهري في قتل الحلاج –لا اليدين، لأن أمره كان قد صار من القوة بحيث يخشى شانه، وكان له دعاة قد انتشروا في البلاد يدعون إلى الرضا بآل محمد، وهذا هو الذي أقام المقتدر ووزيره حامد بن العباس على الحلاج.
إذ كانت السياسة قد طغت على الدين في هذا العصر فوصلت بها مأساة الحلاج إلى ذلك الحد، وجاء حكمها في هذه الدرجة من القسوة.
ولما قتل فر أتباعه إلى خرسان حيث ظهر فيما بعد الشعر الصوفي الفارسي والتركي، وعلى رأس هؤلاء جلال البدين الرومي الذي وضع كتاب «المثنوي» على نظرية الحلاج في وحدة الوجود، وكان السهر وردى المقتول بأمر صلاح الدين الأيوبي من هذا القبيل وأيا كان الحال فقد تحدث صاحب كتاب «الوكيلي» عن الصوفية وما أدخلته من خرافات، وضمته من أفكار فاسدة، ومن هنا يتضح أن الصوفية بالمعنى الكامل والذي تطمئن إليه النفس ويمكن أن يجري كعقيدة في صلاحها هو شيء نادر يتحقق في أفراد من الندرة في الوجود بالمكان، والذي لا يدع شكا في النفس أن طرق الصوفية وزواياهم بدعة في الإسلام.
ففي القرون الثلاثة الأولى من الإسلام لم يحدث شيء من ذلك إلا ما نقل عن عالم المدينة مالك ابن انس حين سئل عن قوم يجتمعون في كان يذكرون فيه ويرقصون، فأجاب بما معناه : أن عملهم بدعة يجب تأديبهم عليه، وقال كل عمل ليس عليه امرنا فهو رد، كما صرح به الحديث الصحيح : «من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد وكان كثيرا ما ينشد :
«وخيـر أمـور الديــن مــا كــان سنــة وشـــر الأمــور المحدثــات البدائـع»
ولم يثبت تاريخنا عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم ولا من التابعين واتباعهم بعد –أن أحدا انتصب في بيت بناه لنفسه، وزعم أنه شيخ يلقن أورادا ابتكرها هادفا بذلك إلى جمع الناس عليه، وتأسيس فروع من الزوايا في عدة نواحي تابعة لمركزه ثم لا يعتم يدخل بعض الحلقات راقصا وسط أتباعه على البطل والمزمار، والأحداث يشدون ويغنون وهم في نشوة داعين ذلك بالحضرة.
وأثناء القرن الرابع أيام الجنيد وعصر الحلاج –اختمرت فكرة التصوف وأصبح هذا الأخير يؤلف كتبا تتصادم في بعض نقطها والشريعة، وشايعه على الفكرة جماعة من أبناء بغداد وشيعتها شيء أشعر الخليفة العباسي ووزيره بالحالة كما أشير لذلك آنفا– أن الحلاج يقوم بتأسيس حزب سري -ذلك ما حفز الخليفة لعقد اجتماع ضم علية العلماء للنظر في المشكل، والإفناء بما يقتضيه روح التشريع الإسلامي فكانت النتيجة بعد البحث– التفكير، وفرارا من المؤامرة والتشويش على الدولة -نفذ فيه الإعدام- راجع كتاب «الحلاج» لما سينبون، وكتاب الحلاج لطه عبد الباقي سرور.
ولم تظهر بعد ذلك طريقة بالمعنى الكامل إلا الطريقة الجيلانية القادرية –فإن الشيخ المولى عبد القادر الجيلي كان أحد كبار علماء الحنابلة، وكان واعظا ومؤلفا، وطبع من مؤلفاته الغنية، ومجالس وعظه وقد ترك عدة أولاد قاموا بتنظيم طريقته ونشرها، كما يعلم ذلك من البداية والنهاية لابن كثير وطريقته منتشرة في العالم الإسلامي، وتوجد في إفريقيا السوداء والذي نشرها- هم أنصار الشيخ المختار الكنتي، ويسمى تابعها مربدا.
أما في المغرب : فأعظم طريق ظهر فيه هي الطريقة الشاذلية لأبي الحسن الغماري الحسني الشاذلي تلميذ المولى عبد السلام بن مشيش، وقبل هذا أسس العالم المجاهد عبد الله بن ياسين الجزولي رباطا وقام مع أتباعه بالجهاد ضد كفار بلغواطة ودعوا بالمرابطين لاجتماعهم بهذه الرابطة، وبعد موته اقتسم السلطة في أتباعه، أبو بكر بن عمر اللمتوني، فجاز جنوب المغرب من سوس إلى الصحراء الكبرى وبلاد غانة في السودان، وعلى يده انتشر الإسلام، وذلك ملكا على المغرب إلى الجزائر ثم الأندلس.
ثم بعد ذلك جاء المهدي بن تومرت متسترا في المر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجمع حوله الجموع في زاويته في تنمل «قبيلة كندافة» وكان يرافقه عبد المؤمن أحد أتباعه العشرة، وهجموا على الدولة الفتية السلفية حيث ضاع أثناءه آلاف المسلمين قرب جبل بمراكش، وذلك في سبيل السيطرة على الحكم، وقد اضطر السلطان علي بن يوسف أن يدخل جيشه الكبير الذي كان يدافع عن المسلمين في الأندلس لمقاومة الثورة التي نشأت ضده في مراكش، ولولا ذلك لانتصر المسلمون، وقضوا على البقية الباقية من فلول الاسبان.
وقد كانت طريقة الموحدين حزبا منظما متسترا باسم الدين، وله عقيدته الخاصة به –كالقول بالعصمة للإمام، ونظام الطبقات، فكان بهذا المعنى حزبا عنصريا لا يعتمد إلا على قبائل الموحدين من المصامدة وغيرهم.
هذا ما حفز الخليفة عبد المؤمن لتربية التلاميذ وتنشئتهم على ذلك في عدة مراكز داخل عاصمته كأكدال والمنارة وغيرها.
ومن طالع كتاب ألمن بالإمامة لابن صاحب الصلاة يعلم ذلك، فأنت ترى أن هاتين الدولتين نشأتا على الربط والزوايا.
وفي هذا الظرف بالتقريب نشأت زاوية آل أمغار في مدينة تيط. ولها أتباع وأنصار ومريدون كما يعلم ذلك من كتاب التشوف للتادلي –ومن فزوعها زاوية أبي محمد صالح برباط آسفي- راجع المنهاج الواضح
وبعد ذلك نشأت الطريقة الشاذلية في مصر وقام بنشرها الأئمة كالمرسي وتلميذته البوصيري، وابن عطاء الله –ومن الأئمة البارزين في نشرها بالمغرب الولي الصالح سيد محمد بن سليمان الجزولي، وعنه أخذ سيدي عبد العزيز الحرار، ثم سيدي عبد الله الغزواني، وبعد ذلك نشأت طرق متفرعة عن الشاذلية- كالزروقية والعيساوية، والجزولية والغزوانية، وطريقة بوعمرو القسطلي بمراكش، وطريقة سيدي محمد الشرقي، والطريقة المباركية لصاحبها سيدي محمد بن مبارك الزعري، والطريقة الدلائية لصاحبها أبي بكر الدلائي المجاطي –راجع دوحة المحاسن وهما للفاسي، وذلك أيام السعديين.
دولة الأشراف السعديين : هذه الدولة إنما نشأت في زلوية من زوايا سوس –وبعد ذلك سيطر محمد القائم السعدي على الحكم في المغرب بعدما قاوم البرتغال في حصن فونتي. أكدير، لهذا كان عدد من الملوك السعديين يقاوم الطرق وأهل الزوايا خوفا من السيطرة التي بواسطتها توصلوا للحكم، وعندما قامت الفتنة على زيدان السعدي من طرف أبي محلي لم ينصره إلا شيخ طريقة إذ ذاك هو يحيى ابن عبد المنعم الحاحي الذي جاء بالآلاف من أنصاره ونصره في معركة قرب مراكش، وأخيرا طمع في الملك، وكان بين الطرفين مراسلات توجد في كتاب الاستقصاء للناصري ونشر المثاني في ترجمة السيد الحاحي يناشده فيها ملك الوقت، إنما جاء لنصرته وبيعته في عنقه، وغايته شريفة، لا الحكم إلى أن رجع إلى بلده حاحة بعد ذلك.
فأنت ترى أن هذا السيد الجليل طمع في الملك وأبو محلى السجلماسي الذي فتح عليه، وادعى المهدوية وصار له أنصار –له تآليف منها 1) منجنيق الصخور في الرد على أهل لفجور، 2) الأصليت الخربث- كان شيخ طريقة، وأخيرا طمع في الملك، فاحتل مدينة مراكش وقام على السلطة الشرعية، ومات في أول المعركة بأول رصاصة وفرقت جموعه حتى قالوا فيه : قام طيشا، ومات كبشا : 1019-1022 وبعض ملوك السعديين أراد القبض على مولاي إبراهيم الأمغاري غير أنه فر إلى بلاد سكتانة متحصنا بجبالها –راجع السعادة الأبدية لابن الموقت.
والزاوية الدلائية العظيمة التي كان لها مركزها الإشعاع في الثقافة كانت بدايتها الشريفة نشر العلم بيد أنها انقلبت أخيرا، وسيطرت على ما يقرب من نصف البلاد المغربية بزعامة محمد بن أبي بكر إلى أن قاومهم المولى الرشيد وقضى عليهم.
وما هذا الشريف إلا سيد نشأ في زاوية جده المولى علي الشريف المجاهد الذي عرض عليه الملك في غرناطة ورفضه، كما ذكر ذلك أكنسوس في جيشه العرموم، ولذلك كان المولى الرشيد وأخوه المولى إسماعيل يقاومان شيوخ الطرق خوفا من أطماعهم في الحكم، من ذلك ما وقع له مع الشيخ سيدي علي بن عبد الرحمن الدري دفين تادلة – راجع «فتح الحمن في مناقب سيدي علي بن عبد الرحمن» وتوجد ترجمته في صفو ة من انتشر لليفرني.
ثم بعد هذا تكونت عدة طرق متفرعة عن الأصل الشاذلي –منها الطريقة الوزانية الطيبية التهامية، والطريقة الحمدوشية، والتجانية، غير أنها مستقلة بنفسها، ثم الطريقة الدرقاوية، والطريقة الشرادية. وقد تفرعت عن الدرقاوية عدة فروع، كل شيخ منها نسبت الطريقة إليه- فمنها طريقة مولاي العربي، والرطيقة الحراقية، والطريقة الصديقية، وهؤلاء بالشمال المغربي، والطريقة الفتحية البنانية، والطريقة الحدادية بالرباط، والطريقة الألغية بسوس.
وقد كان الملوك العلويون حذيرين من شيوخ الزوايا –فهذا المولى سليمان العلوي عند ما تولى الملك قاومهم ومنعهم من التجمع داخ المساجد، وأنشأ خطة خطب بها في الناس، وبين فيها المناكر التي يقوم بها شيوخ الزوايا، وتوجد بنصها في الترجمانة الكبرى للزياني.
وهذا المولى عبد الرحمن قد هجم على زاوية الشرادي بناحية مراكش، لما طمع شيخها في الملك، وقضى فيها على هذا الفتان، ثم إن مولاي العربي لما دخل أنصاره في شؤون الجزائر وكتب بعض أتباعه من تلسمان لمولاي سليمان بالبيعة وأرادوا الانفصال عن الأتراك وساءت العلاقات مع جيراننا –أرسل السلطان وفدا برئاسة السيد بادو-(*) ولما بحثوا عن الحقيقة ودرسوا ذلك في عين المكان تبين لهم أن الشعب الجزائري لم يطلب ذلك، وإنما بعض أنصار الطائفة الدرقاوية قاموا بذلك، فقبض السلطان على الشيخ وبعض أتباعه، إلى أن توفى وبقي الشيخ في السجن ثم أطلق سراحه بعد من طرف المولى عبد الرحمن.
ومن خلال هذا العرض نستطيع أن نتبين طمع هؤلاء الشيوخ في الاستلاء على الحكم. أما الطريقة النظيفة التي كان ولاة الأمر يحترمونها –فهي الناصرية بتامكروت، لأن غايتها كانت نشر العلم والسنة، وليس لأتباعها أي تجمع في الطرقات ولا يرقصون، بخلاف التجانيين فقد كانوا يرقصون في زواياهم إلى أن كتب لهم أخيرا الشيخ العربي بن السائح العمري في منه ذلك.
والطريقة السنوسية –كانت غايتها نشر العلم وبث الدعوة الإسلامية، وقامت بالجهاد عن احتلال الطليان لبرقة، وعلى رأسها المجاهد عمر المختار. وأخيرا انتقلت من الطور الروحي إلى الدور السياسي، وأصبحت دولة تكافح وتنافح إلى أن حققت النصر واستقلت آخر سنة 1952م.
(*) راجع البيان المعرب عن دول المشرق والمغرب.