يقتضي الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بما يقع بعده من حقائق، كحقيقة البعث، والحشر، والحساب، والميزان والصراط
من الإيمان باليوم الآخر أيضا الإيمان بما يقع بعده من حقائق دلت النصوص الدينية القطعية على وقوعها حقيقة منها:
البعث
ومعناه إعادة الخلق بعد العدم، ونشأتهم بعد الرمم، وهو جائز عقلا وواقع شرعا.(1)
فينبغي اعتقاد أن الله تعالى سيعيد الجسم إعادة محققة لا شك فيها بعد عدم، وأن الجسم المعاد هو الجسم الأول بعينه لا مثله، فالجسم ينعدم بالكلية ثم يعيده الله كما أوجده أولا.(2)
والدليل على جواز إعادة الخلق – كما يقول الإمام الأشعري-: "أن الله سبحانه خلقه أولا لا على مثال سَبَقَ، فإذا خلقه أولا لم يُعيه أن يخلقه خلقا آخر، وقد قال عز وجل : (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ )[يس :78،79] فجعل النشأة الأولى دليلا على جواز النشأة الآخرة لأنها في معناها، ثم قال:(الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ) [يس: 80] فجعل ظهور النار على حرها ويبسها من الشجر الأخضر على نداوته ورطوبته دليلا على جواز خلقه الحياة في الرمة البالية والعظام النخرة، وعلى قدرته على خلق مثله، ثم قال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم )[يس: 81] وهذا هو المعول عليه في الحجاج في جواز الإعادة...
وهذا هو الدليل على صحة الحجاج والنظر، لأن الله تعالى حكم في الشيء بحكم مثله، وجعل سبيل النظير ومجراه مجرى نظيره، وقد قال تعالى:" اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11] وقوله تعالى:" وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم : 27] يريد وهو هين عليه، فجعل الابتداء كالإعادة."(3)
الحشر
ومعناه جمع الناس بعد أن يقوموا من قبورهم ليحاسبوا على ما عملوا في الدنيا. ومن النصوص الدالة على الحشر، قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : 22].
وقوله سبحانه وتعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ )[يونس : 28].
وقوله سبحانه وتعالى: (وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً )[الإسراء : 97].
وقوله أيضا: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً )[الكهف : 47]
الحساب
إذا كان الحشر واقعا لا محالة، كما نطقت بذلك النصوص القطعية، فإن الإيمان بالحساب، وهو أيضا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، يؤكد هذه الحقيقة الدينية الإيمانية. لأن معنى الحساب: توقيف الله تعالى العباد على أعمالهم وأقوالهم ومعتقداتهم خيرا كانت أو شرا، بعد أخذهم كتبهم.
وقد ورد في القرآن الكريم لفظ الحساب في آيات كثيرة ليتذكر الإنسان هذا اليوم العظيم، ولا يغفل عنه لحظة. منها قوله تعالى: (لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[إبراهيم: 51]، وقال أيضا: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [غافر: 17]، وقال أيضا:" ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ )[الغاشية: 26]. وفي الحديث الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حوسب يوم القيامة عذب، فقلت أليس قد قال الله عز وجل: فسوف يحاسب حسابا يسيرا، فقال: ليس ذاك الحساب، إنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب". وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحد يحاسب إلا هلك، قلت يا رسول الله أليس الله يقول: حسابا يسيرا قال ذاك العرض، ولكن من نوقش الحساب هلك.(4)
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : "من نوقش الحساب عذب" أي أن نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف عليه هو التعذيب، إما لما فيه من التوبيخ، أو أنه مفض إلى العذاب بالنار كما في رواية: هلك.(5)
الميزان
اعتقاد أهل الحق أن الله تعالى يضع الموازين يوم القيامة، من أجل حساب الناس على ما قدموا من أعمال.
وإذا كنا نؤمن يقينا بوجود ميزان يوم القيامة لوزن الأعمال، فإن الله تعالى لم يطلعنا على حقيقة هذا الميزان، ولم يكلفنا بالبحث عن كيفية وزن الأعمال، لأن ذلك كله فوق أطوار عقولنا، وهو من الغيب الذي نستند في معرفته إلى الوحي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
فمن القرآن الكريم قوله تعالى:
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ )[الأنبياء: 47] وقوله عز وجل: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )[الأعراف: 8] وقوله عز وجل: (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون: 102،103] وقوله سبحانه: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه ُفَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) [القارعة: 6، 7].
الصراط
مما يجب اعتقاده أيضا أن الصراط ثابت، ووجوده حق في الآخرة، وهو كما يستفاد من النصوص الدينية الكثيرة عبارة عن جسر أدق من الشعرة، وأحد من السيف، ممدود على متن جهنم، يرده الأولون والآخرون ...(6)
وقد وردت نصوص في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة دالة على وجوده يوم القيامة، منها قوله تعالى: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)[الصافات : 23،24].
وقد أجمع أهل السنة والجماعة على الوجود المادي للصراط يوم القيامة، وأنه جسر ممدود على جهنم يمر عليه جميع الخلائق المؤمنين وغير المؤمنين، على قدر أعمالهم وإعراضهم عما حرم الله تعالى. وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يمر الناس على جسر جهنم وعليه حسك وكلاليب وخطاطيف، تخطف الناس يمينا وشمالا، وعلى جنبتيه ملائكة يقولون: اللهم سلم، اللهم سلم، فمن الناس من يمر مثل البرق، ومنهم يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس المُجري، ومنهم من يسعى سعيا، ومنهم يميش مشيا، ومنهم يحبو حبوا، ومنهم من يزحف زحفا...(7)
وجاء في رسالة ابن أبي زيد القيرواني:" ... وأن الصراط حق، يجوزه العباد بقدر أعمالهم، فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم، فمنهم قوم أوبقتهم فيها أعمالهم".(8) أما الحكمة من المرور على الصراط فهو ظهور النجاة من النار لأهل الجنة، وتحسر الكفار بفوز المؤمنين بعد اشتراكهم من المرور.(9)
الإيمان بالجنة والنار
إذا كان وجود الجنة والنار ثابتا بالكتاب والسنة، واتفاق كافة علماء الأمة على أنهما مخلوقتان، فإنه من الواجب على كل مسلم أن يعتقد أن الجنة هي دار الخلود للسعداء من للمؤمنين، كما أن النار دار الخلود للأشقياء، ممن مات على الكفر أعاذنا الله منه. وأن الله تعالى سيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكافرين النار. قال تعالى : (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ) [القارعة:6،11].
وقوله جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )[التحريم : 6] وقوله سبحانه وتعالى: (ِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة : 6،8]. وإذا كانت الجنة والنار مخلوقتين كما ثبت بالنص فإن العقل أيضا لا يحيل خلقهما.
الإيمان بعذاب القبر ونعيمه
اعتقاد أهل السنة قاطبة أن عذاب القبر واقع لا محالة، كما أن هذا العذاب يقع على الروح والبدن جميعا. وإضافة العذاب إلى القبر لا يعني أبدا أن الذي لم يدفن لسبب من الأسباب، كمن غرق أو حرق أو التهمته الضواري ... لا يعذب، بل هذه الإضافة على سبيل التغليب فقط، وإلا فكل من أراد الله تعالى تعذيبه عذب، قبر أم لم يقبر... وكذلك نعيم القبر بالنسبة للمؤمنين الذي بلغت النصوص في إثباته مبلغ التواتر فإنه يشمل كل ميت قدر له، قبر أو لم يقبر...(10)
وهناك جملة من الأمور تصاحب عذاب القبر، منها سؤال الملكين منكر ونكير، وهما كما في الحديث الصحيح الذي يرويه أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قَرْعَ نعالهم إذا انصرفوا، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا النبي محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيُقال انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم - فيراهما جميعا- وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطْرَقَة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها كل من يليه إلا الثقلين." (11)
وعن أنس بن مالك قال قال نبي الله صلى الله عليه وسلم :" إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، قال: يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، قال: فيقال له: أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : فيراهما جميعا، قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا، ويُملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون."(12)
ومما يجب الإيمان به أيضا أن عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين كل ذلك من قبيل أمور الغيب التي نؤمن بها ونفوض كيفتيها إلى الله تعالى.
--------------------------------------------
(1) غاية المرام في علم الكلام، لسيف الدين الآمدي، ص: 260.
(2) شرح جوهرة التوحيد، للباجوري، ص:371.
(3) اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع لأبي الحسن الأشعري ص 84.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي باب إثبات الحساب، 9/208.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي، 9/208.
(6) شرج جوهرة التوحيد للباجوري، ص: 405.
(7) متفق عليه...
(8) شرح القاضي عبد الوهاب لعقيدة ابن أبي زيد القيرواني ، ص: 35.
(9) شرح جوهرة التوحيد للباجوري، ص:409.
(10) شرح جوهرة التوحيد، للباجوةري، ص: 365.
(11) متفق عليه.
(12) صحيح مسلم مع شرح النووي ، إثبات عذاب القبر والتعوةذ منه، 9/202