اهتم أئمة العقيدة الأشعرية بمسألة الإمامة اهتمامهم بأمور العقيدة نفسها، حيث أفردوا لها مبحثا خاصا في مصنفاتهم العقدية، منذ تدوين هذه العقيدة إلى الصياغة النهائية لها، لعلمهم واقتناعهم بمكانة هذا المنصب العظيم، في إقامة أمور الدين والدنيا
بحسب ابن خلدون، الإمامة "نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به، سمي خلافة وإمامة والقائم به يسمى خليفة وإماما". (1 )
ولقد اختار الإمام الأشعري التأصيل لمسألة الإمامة من خلال الحديث عن إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بناء على عقد من عقدها له من المسلمين، وبيعة من بايعه من المهاجرين والأنصار وإجماع المسلمين عليه في وقته... وجب أن يكون إماما مفترض الطاعة.(2 )
وانطلاقا من هذا المبدأ يعرف أئمة العقيدة الأشعرية الإمامة بأنها عبارة عن خلافة شخص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في إقامة قوانين الشرع وحفظ حوزة الملة على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة.(3 )
شروط الإمامة
ذكر علماء العقيدة للإمامة عدة شروط، منها ماهو موضوع إجماع، ومنها ما هو مختلف فيه.
وقد بالغ بعض العلماء في هذه الشروط إلى حد التكليف بما لا يطاق، لكونها قد لا توجد فيكون اشتراطها مستلنزما للمفسدة التي يمكن دفعها بنصب فاقدها، وسنكتفي بذكر الشروط المجمع عليها، وهي:
أولا: يجب أن يكون الإمام عادلا ، لئلا يجور.
ثانيا: يجيب أن يكون الإمام عاقلا مسلما.
ثالثا: يجب أن يكون الإمام بالغا.
رابعا: يجب أن يكون الإمام ذكرا.
خامسا: يجب أن يكون الإمام حرا. (4 )
وجوب الإمامة
ذهب أئمة العقيدة الأشعرية إلى وجوب نصب إمام يقوم بأمور الدين والدنيا، وهذا الوجوب شرعي، أي القول بفرضية إقامة الإمام واتباعه ذو مرجعية دينية.
ومن الأدلة على ذلك ما ثبت بالتواتر من أجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي (ص) على امتناع خلو الوقت من خليفة وإمام ينهض بهذه الأمور. حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته المشهورة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إن محمدا قد مات، ولا بد لهذا الدين من يقوم به" فبادر الكل إلى تصديقه والإذعان إلى قبول قوله، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين، ولا تقاصر عنه أحد من أرباب الدين...( 5)
صفة اختيار الإمام
إذا كان الإجماع واقعا على أن الإمامة بوصفها منصبا دينيا ودنيويا لا يخلو منه أي عصر من العصور لما فيه من فوائد ومصالح للأمة، فإن اختيار الإمام لا يخضع لهذا المبدأ، أي لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع، وإذا كان ذلك كذلك فإنه لا يشترط أيضا عدد معين في عقد الإمامة، بل تنعقد الإمامة بعقد واحد من أهل الحل والعقد، وقد أضاف بعض الأشاعرة، ضرورة جريان العقد بمشهد من الشهود، أي الإعلان عن هذا الأمر " فإنه لو لم يشترط ذلك لم نأمن أن يدعي مدع عقدا سرا متقدما على الحق المظهر المعلن".( 6)
فإذا كان مقصود الشارع من التكاليف الشرعية وما شرعه من حدود وعقدود... هو تحقيق المصالح للخلق، فإن ذلك لا يتم دون إمام مطاع، وخليفة متبع، يجمع الأمة على كلمة سواء.(7 )
البيعة هي الصيغة الشرعية للإمامة
كلمة البيعة ترادف كلمة العهد، أي أن المبايع كأنما يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره.(8 )
وقد ورد مصطلح البيعة في القرأن الكريم في قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [الفتح : 10].
وقوله عز وجل:" لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح : 18]
وجوب طاعة الإمام
وبالنظر إلى أهمية هذا المنصب في إقامة أمور الدين والدنيا، والسهر على شؤون الأمة في حفظ بيضتهم وحرس حوزتهم وتوحيد كلمتهم، فقد أوجب العلماء السمع والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم. وهذا الوجوب يستند إلى الشرع ويؤده العقل.
ومن الأدلة على ذلك النصوص الصريحة الآتية:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : 59].
وقوله تعالى: (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) [التغابن : 16].
وقوله تعالى : (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء : 83].
وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بضرورة طاعة أولي الأمر، فقد جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم :" من فارق الجماعة قيد شبر مات ميتة جاهلية".(9)
وقوله صلى الله عليه وسلم في وجوب طاعة من ولي الأمر" فاسمعوا له وأطيعوا."(10)
وإذا كان الإجماع حقا، وما تجتمع عليه الأمة لا يكون إلا حقا مقطوعا على الحقيقة قولا كان أوفعلا، فإن الأمة قد أجمعت منذ الصدر الأول إلى زماننا هذا على ضرورة وجود إمام يسهر على شؤون الأمة الدينية والدنيوية. لكون نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع كما يقول الإمام الغزالي.(11)
ويقول ابن أبي زيد القيرواني في عقيدته الشهيرة:" والطاعة لأئمة المسيلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم ...(12)
فهذه النصوص وغيرها دعوة صريحة إلى وجوب طاعة أولي الأمر في أمور الدين والدنيا، وهذا المعتقد هو قول أهل السنة والجماعة قاطبة، وهو مبدأ إسلامي راسخ كما نطقت بذلك النصوص الدينية الكثيرة، من الكتاب والسنة والإجماع.
بيعة المولى إدريس بن عبد الله -رضي الله عنه-
لقد سار أهل المغرب على نهج السلف الصالح في اختيار الإمام ونصبه منذ قيام الدولة الإدريسية إلى عهد الدولة العلوية، فبعد أن استقر المولى إدريس بن عبد الله رضي الله عنه ( تـ 177 هـ) بمدينة وليلي بايعته القبائل المغربية إماما عليهم بعد ما عرفوا نسبه الشريف وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضله ودينه وعلمه وخلقه واجتماع خصال الخير فيه.
وقد تم له هذا الأمر يوم الجمعة رابع رمضان المعظم سنة اثنين وسبعين ومائة. وكان أول من بايعه قبيلة أوربة على السمع والطاعة، وكانت هذه القبيلة يومئذ من أعظم قبائل المغرب الأقصى وأكثرها عددا ثم تلتها قبائل أخرى... حتى بايعته كافة القبائل ودخلوا في طاعته، فاستتب أمره وتمكن سلطانه وقويت شوكته. (13)
وقد توفي المولى إدريس رضي الله عنه سنة سبع وسبعين ومائة، وبايع القبائل ابنه إدريس الأصغر حملا، ثم رضيعا، ثم فصيلا، إلى أن شب فبايعوه بجامع مدينة وليلي يوم الجمعة غرة ربيع الأول سنة ثمان وثمانين ومائة وهو ابن احدى عشرة سنة.(14)
ومنذ ذلك التاريخ إلى زماننا هذا والمغرب ينعم والحمد لله بنعمة البيعة الشرعية لإمارة المؤمنين بوصفها دعامة أساسيية لسياسة الدين والدنيا التي من مقتضايتها ضمان الأمن والأستقرار للأمة.
إمارة المؤمنين هي الإمامة العظمى اليوم
إذا كان علماء العقيدة الأشعرية متفقين على وجوب الإمامة، وكان هذا الوجوب مستندا إلى الشرع دون العقل، فإن نظام المملكة المغربية الشريفة يجسد هذا الأمر انطلاقا من منصب إمارة المؤمنين الذي يستمد مشروعيته من الدين الإسلامي الحنيف، ويتحقق بعقد البيعة الشرعية، والإجماع الذي يعد الدستور المغربي أحد مظاهره. حيث "يعبر الملك أميرا للمؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وحامي حمى الدين".
وهذا يعني على سبيل القطع، أن موضوع الإمامة التي أفرد لها علماء العقيدة الأشعرية مبحثا مستقلا في مصنفاتهم العقدية محسوم فيها في المملكة المغربية الشريفة، إذ تجسدها بحق إمارة المؤمنين باعتبارها منصبا شرعيا متجددا راسخا في النظام المغربي العريق، منذ عهد المولى إدريس الأكبر، إلى عهد الدولة العلوية الشريفة.
--------------------------------------------
(1) مقدمة ابن خلدون 2/564 بتحقيق د. علي عبد الواحد وافي .
(2) اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، للإمام الأشعري، ص: 159 / الإبانة عن أصول الديانة له أيضا ص: 251 .
(3) أبكار الأفكار في أصول الدين، تأليف سيف الدين الآمدي 5/121 .
(4) المواقف في علم الكلام، للإيجي، ص: 398 .
(5) غاية المرام في علم الكلام، لسيف الدين الآمدي، ص: 310 .
(6) الإرشاد إلى قواطع الأدجلة في أصول الإعتقاد، للجويني، ص:424 /أنظر أيضا: غاية المرام في علم الكلام لسيف الدين الآمدي، ص: 324 .
(7) أنظر كتاب" غاية المرام في علم الكلام: تأليف سيف الدين الآمدي، ص: 309،/ أبكار الأفكار في أصول الدين له أيضا/ 5/123 .
(8) مقدمة ابن خلدون 2/589 .
(9) أخرجه البخاري في الفتن، 7/87 ومسلم في الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين 2/1477 .
(10) صحيح مسلم، باب الحج 1/944 .
(11) الاقتصاد في الإعتقاد، ص:148 .
(12) باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانان من متن الرسالة، ص:10، مطبعة دار الرشاد الحديثة الدار البيضاء-المغرب – الطبعة الأولى سنة 2006 .
(13) الاستقصاء في أخبار دول المغرب الأقصى، للناصري 1/155 .
(14) المرجع السابق 1/161